مرتزقة كولومبيا في السودان- حرب بالوكالة وخرائط الدم

المؤلف: د. ياسر محجوب الحسين08.21.2025
مرتزقة كولومبيا في السودان- حرب بالوكالة وخرائط الدم

تستمر الأزمة السودانية في التأرجح بين براثن الصراعات الإقليمية والدولية، كشريط مشدود في نسيج بالغ التعقيد، يزداد تجديلًا عند كل منعطف حرج. فالمشهد الداخلي، الذي بدأ بتمرد سافر من قبل ميليشيا الدعم السريع على سلطة الدولة الشرعية، قد امتد كجمرة خبيثة تحت الرماد الخادع، ليطال أذرعًا خارجية ممتدة من وراء البحار والمحيطات.

ولعل من بين أحدث فصول هذه الملحمة السوداوية، الإعلان المدوي الصادر عن الحكومة السودانية، والذي كشف عن استهداف طائرة شحن كانت تقل أربعين مرتزقًا كولومبيًا في مطار نيالا بولاية دارفور المضطربة. هذا المشهد، الذي بدا وكأنه فصل جديد من "حرب الظلال" السرية، أثار جدلاً واسعًا وتحليلات معمقة حول طبيعة التدخلات الأجنبية السافرة في هذا النزاع المحتدم، وتداعياته الأمنية والسياسية الوخيمة على مستقبل البلاد.

لقد أثارت مشاركة هؤلاء المرتزقة الكولومبيين في هذه الفضيحة المدوية موجة عارمة من الغضب والاستياء الشعبي، إذ تحول هؤلاء الجنود السابقون، الذين خبروا أتون الصراعات المسلحة في قارة أمريكا اللاتينية، إلى مجرد أدوات مأجورة رخيصة في نزاعات تتجاوز حدود أوطانهم الجغرافية.

لقد تم تجنيدهم بوعود براقة بالمال والثراء السريع، ليجدوا أنفسهم في قلب عمليات مشبوهة تتسم بالغموض والتعقيد السياسي والأمني، حيث ارتبطت أسماؤهم بجرائم وانتهاكات صارخة أثارت إدانة واستنكارًا عالميًا واسع النطاق.

وقد شكلت هذه المشاركة صدمة عنيفة للرأي العام السوداني، إذ كشفت عن شبكة معقدة من السماسرة وشركات الأمن الخاصة التي تتاجر بالبشر كسلعة رخيصة في سوق الحروب القذرة.

حدث مشين ولعبة قذرة

ما بين طموح فردي يائس للهروب من براثن الفقر المدقع وإغراءات العقود المربحة، تورط العشرات من هؤلاء المرتزقة في مهام قذرة لا تعرف شيئًا عن شرف المهنة العسكرية النبيلة، ليصبحوا مجرد بيادق في لعبة أممية قذرة، تُدار من خلف الستار وتُكتب فصولها بدماء الأبرياء و العملة الصعبة.

هذه الفضيحة المدوية لم تفضح الأفراد المتورطين فحسب، بل كشفت أيضًا عن الوجه المظلم لصناعة المرتزقة في العالم المعاصر، وكيف يتم استغلال الفقر واليأس لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية خبيثة.

إن هذا الحدث المشين يعكس واقعًا متغيًرا في ميدان الحرب في السودان، حيث برز ملف المرتزقة كأداة رئيسية تستخدمها بعض القوى الإقليمية والدولية لتعزيز نفوذها ومصالحها في المنطقة دون إعلان صريح عن تورطها المباشر. وهذا يستوجب فهمًا معمقًا لتاريخ هذا النوع من التدخل، وآليات التجنيد المعقدة، والدوافع الجيوسياسية الخفية، فضلاً عن تقييم الأثر الكارثي على الوضع الداخلي والإقليمي.

لقد نشأ سوق المرتزقة الكولومبيين من خلفية تاريخية متشابكة تتصل بالحرب الأهلية الطويلة التي دامت لأكثر من خمسة عقود في كولومبيا، والتي شهدت صراعات دامية بين الحكومة، والجماعات اليسارية المسلحة المتمردة، ومليشيات عصابات المخدرات الإجرامية.

هذا النزاع القاسي والمستمر أنتج جيلاً كاملاً من المقاتلين المحترفين الذين اكتسبوا خبرات قتالية متقدمة في الحروب غير النظامية والتكتيكات العسكرية المتنوعة، مما جعلهم مطلوبين في أسواق القتال العالمية.

مع توقيع اتفاق السلام الهش بين الحكومة الكولومبية وجماعات مسلحة رئيسية خلال العقد الماضي، واجه العديد من هؤلاء المقاتلين السابقين تحديات اجتماعية واقتصادية قاسية، ما دفع شريحة كبيرة منهم إلى البحث عن فرص عمل جديدة عبر تقديم خدماتهم القتالية كمرتزقة في مناطق النزاع المتعددة حول العالم.

شهد العقد الأخير توسعًا ملحوظًا في الطلب على المرتزقة الكولومبيين في العديد من النزاعات المسلحة، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، حيث تم توظيفهم في دول مثل ليبيا، واليمن، وسوريا، لا سيما في مهام الحراسة الخاصة، والتدريب العسكري، والعمليات القتالية المباشرة ضد أهداف معينة.

يتميز المرتزقة الكولومبيون بأسلوب قتالي فريد يجمع بين الكفاءة العالية في القتال التكتيكي، والقدرة الفائقة على العمل في بيئات معقدة وظروف قاسية، والسرعة المذهلة في التأقلم مع الظروف الميدانية المتغيرة، مما جعلهم خيارًا جذابًا وفاعلاً في أسواق الارتزاق العسكرية العالمية.

حادثة مطار نيالا: التفاصيل والتداعيات

في السادس من أغسطس/آب الحالي، أعلنت السلطات السودانية الرسمية عن تنفيذ ضربة جوية دقيقة وموجهة على مطار نيالا الحيوي في إقليم دارفور المضطرب، مستهدفة طائرة شحن كانت تقل ما يقارب أربعين مرتزقًا كولومبيًا كانوا في طريقهم للانضمام إلى القتال الدائر إلى جانب تشكيلات ميليشيات الدعم السريع المتمردة على الدولة.

جاءت هذه العملية الجراحية كرسالة واضحة لا لبس فيها تؤكد رفض الحكومة السودانية القاطع لجميع تدخلات المرتزقة الأجانب في الحرب المشتعلة في البلاد، بل وعكست هذه العملية النوعية قدرة سلاح الجو السوداني على استهداف التهديدات القادمة من الخارج عبر ضرب مراكز الإمداد والتموين التابعة للميليشيات المتمردة.

وأثارت هذه الضربة الجوية ردود فعل متباينة ومتضاربة على المستويين الإقليمي والدولي، حيث اعتبرها البعض مؤشرًا على تصاعد خطير في حدة النزاع، بينما رأى فيها آخرون أنها بداية واعدة لضبط النزاع والحد من التدخلات الخارجية السافرة التي تعقد الملف السوداني الشائك.

خلال الفترة التي سبقت الضربة الجوية وبعدها، انتشرت على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات إخبارية مختلفة مقاطع فيديو توثق مشاركة المرتزقة الكولومبيين في العمليات العسكرية في منطقة دارفور، حيث يظهرون فيها وهم يتقدمون في المعارك إلى جانب ميليشيات الدعم السريع المتمردة.

وعكست هذه المشاهد المصورة تزايد وجود هؤلاء المرتزقة على أرض الواقع، ومدى تأثيرهم الفعلي في العمليات القتالية الدائرة، حيث أظهرت اللقطات استخدام هؤلاء المرتزقة لتقنيات عسكرية متقدمة، والتنقل التكتيكي السريع، وهو ما يرفع بشكل ملحوظ من مستوى التعقيد في هذه الحرب.

في خضم هذا التفاعل الدولي المتزايد، بثت قناة Caracol TV الكولومبية خطابًا متلفزًا لرئيس مجلس الوزراء السوداني الدكتور كامل إدريس، والذي وجهه إلى عموم الشعب الكولومبي والحكومة هناك باللغة الإسبانية. وقد دعا إدريس في رسالته المؤثرة جميع المجتمعات الناطقة بالإسبانية إلى ضرورة وقف تجنيد المرتزقة وإرسالهم إلى السودان الذي يعاني ويلات الحرب.

وجاء في خطابه الذي أثار تعاطفًا واسعًا: "انطلاقًا من روح الإبداع والتضامن والالتزام الراسخ بالسلام، يأتي هذا النداء العاجل للوقوف معًا بثبات من أجل إنهاء الحصار الظالم على مدينة الفاشر، ووقف تجنيد المرتزقة وإرسالهم إلى أرضنا التي تنزف دماءً".

كما أشاد إدريس بالنداء الذي أطلقه رئيس وزراء كولومبيا لإنهاء تجنيد المرتزقة الكولومبيين وإرسالهم إلى دارفور، مؤكدًا أن العالم الناطق بالإسبانية قدم إسهامات جليلة للبشرية جمعاء، بدءًا من فن بابلو بيكاسو الخالد وصولًا إلى شعر بابلو نيرودا العذب، وسرديات غابرييل غارسيا ماركيز الساحرة. وأدب ماريو فارغاس يوسا.

آليات التجنيد: شبكة عالمية معقدة

يتم تجنيد المرتزقة الكولومبيين من خلال شبكات منظمة ومحكمة التنظيم، تعتمد بشكل كبير على استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها بعض المقاتلين السابقين في كولومبيا، حيث يعمل وسطاء وشركات أمن خاصة على استقطابهم بأساليب ملتوية وتقديم عقود عمل مغرية في الخارج.

بعد الانتهاء من مرحلة التجنيد الأولية، تبدأ عمليات النقل التي تتم في الغالب عبر رحلات جوية خاصة أو تجارية تتنقل عبر مطارات في دول الجوار، باستخدام وثائق سفر مزورة أو تحت غطاء رحلات غير رسمية، وذلك لتفادي الرقابة الأمنية الصارمة المفروضة على المطارات.

كما تستغل هذه الشبكات الإجرامية الثغرات الأمنية الموجودة في الرقابة الحدودية والفساد المستشري لتسهيل عبور المرتزقة عبر الممرات البرية أو البحرية غير الشرعية، خصوصًا في المناطق الحدودية التي يصعب مراقبتها بشكل دائم ومستمر.

يرتبط التمويل الضخم لهذه العمليات بأطراف إقليمية ودولية نافذة ترغب في تعزيز نفوذها ومصالحها الخاصة عبر دعم قوى مسلحة داخل السودان، مستفيدة من القدرات القتالية التي يقدمها المرتزقة دون الظهور بشكل مباشر في الصراع الدائر.

يكتسب وجود المرتزقة الكولومبيين في السودان أهمية إستراتيجية كبيرة في إطار تنافس أوسع نطاقًا بين قوى إقليمية ودولية تسعى جاهدة إلى تحقيق مكاسب ونفوذ في منطقة القرن الأفريقي الحيوية، التي تعتبر نقطة وصل استراتيجية بين قارة أفريقيا والبحر الأحمر ومنطقة الشرق الأوسط.

يتميز السودان بموقع إستراتيجي فريد وثروات طبيعية هائلة، من احتياطيات ضخمة من الذهب والنفط والمعادن الأخرى الثمينة، إضافة إلى موقعه المتميز على طريق الملاحة العالمي عبر البحر الأحمر، مما جعل الدول الإقليمية والدولية تستثمر بكثافة في هذا النزاع من خلال أدوات متعددة، بما في ذلك استخدام المرتزقة الأجانب لتعزيز مواقفها وتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية دون الانخراط المباشر في الحرب، وهو ما يمنحها القدرة على الإنكار وتجنب التبعات القانونية للتدخلات الرسمية.

ولعل الهدف الأساسي لتوريط المرتزقة الدوليين هو تعزيز وتقوية محاولة وقف الانهيار المتسارع لميليشيا الدعم السريع التي تلقت ضربات قاصمة وموجعة من القوات المسلحة السودانية الباسلة. وذلك بغرض محاولة تغيير ميزان القوى الداخلي المختل لتعطيل الحسم العسكري السريع لصالح الجيش السوداني وإطالة أمد الحرب.

تحديات مكافحة الارتزاق

تعتبر مشاركة المرتزقة الأجانب في الحرب السودانية الدائرة عاملاً رئيسيًا يفاقم الأزمة الإنسانية والسياسية المتفاقمة، حيث تسهم هذه المشاركة بشكل كبير في تأخير تنفيذ خطط إعادة الاستقرار المنشودة، وتعقيد المشهد الأمني الهش.

فهؤلاء المرتزقة لا يخضعون بالضرورة لسيطرة واضحة أو مساءلة قانونية داخل الأراضي السودانية، مما يزيد بشكل كبير من الانتهاكات والجرائم المحتملة التي قد ترتكب ضدهم المدنيين الأبرياء. فضلاً عن تزايد حدة التوتر والاضطرابات في منطقة القرن الأفريقي التي تعاني بالفعل من مشاكل أمنية متراكمة ومعقدة.

وفي ذات الوقت، يعمل تورط المرتزقة الأجانب على تقويض الجهود الدبلوماسية والتفاوضية الرامية إلى إنهاء هذا الصراع الدامي، إذ يتعقد المشهد السياسي بشكل كبير بسبب تعدد الفاعلين الرئيسيين واختلاف أجنداتهم ومصالحهم المتضاربة، مما يتطلب تبني نهج إقليمي ودولي منسق لمعالجة هذه التحديات المعقدة.

إن حادثة مطار نيالا وما رافقها من شواهد ميدانية دامغة عبر مقاطع الفيديو المصورة، تؤكد بشكل قاطع أن الصراع في السودان قد تجاوز حدوده الداخلية الضيقة ليصبح ساحة تنازع دولي متعدد الأبعاد والمصالح المتضاربة.

ويبرز ملف المرتزقة الكولومبيين في الحرب السودانية كأحد الأبعاد الحساسة التي توضح بجلاء مدى تعقيد الأزمة وتداخلها مع مصالح إقليمية ودولية مختلفة، وتحول الحرب من مجرد تعاطي داخلي مع تمرد محدود داخل الدولة إلى ساحة تصادم دولية متعددة الأطراف.

إن مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة تتطلب جهودًا متكاملة ومنسقة تشمل تعزيز الرقابة الأمنية المشددة على الحدود والمطارات، وكشف وتفكيك شبكات التجنيد والتمويل السرية، ودعم الحل السياسي الشامل الذي يحظى بإرادة وطنية خالصة، ويقود إلى تحقيق استقرار دائم ومستدام.

فبدون اتخاذ هذه الخطوات الحاسمة، سيظل السودان يعاني من التأثيرات السلبية والمدمرة للتدخلات الخارجية التي تستغل هشاشة الدولة لتحقيق مكاسب خاصة على حساب أمن واستقرار البلاد.

فمن دون هذه الإجراءات الفعالة، سيبقى السودان مسرحًا لحرب بالوكالة، تتحرك فيها جيوش الظل من غابات الأمازون المطيرة إلى رمال دارفور الملتهبة، تحمل معها رياح الخراب والدمار وتترك خلفها خرائط جديدة مرسومة بمداد الدم المسفوح.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة